- اقتباس :
بصراحة
وبعد ان انقضت مدة في مطالعتي لاحاديث الشيخ العم جميل السلحوت مع حماره،
أعجبت بهذه العلاقة، وبحماره الذكي فتوجهت للشيخ وطلبتُ منه أن يعثر لي على
حمار مثل حماره لأصحبه معي الى قريتي الرامة في الجليل، فمن جهة سيساعدني
في جمع محصول الزيتون ومن جهة اود أن استمتع بأحاديثه الطريفة. وافق الشيخ
وانطلقنا في عملية بحث وتنقيب عن حمار وبمساعدة حماره أبو صابر الذي لم يأل
جهدًا في تشغيل اتصالاته في أوساط قطعان الحمير في المنطقة، وبعد بحث طويل
في جبل المكبر وسلوان وصلتنا رسالة من أحد حمير حيّ الشيخ سعد، والذي فُصل
عن امتداده وأصله جبل المكبر بشكل كامل بعد اقامة الجدار الفاصل، أنه
يتذكر حمارًا من أقاربه فيه المواصفات التي نطلب في منطقة غزيل جنوبي جبل
المكبر. بعد مدة عثرنا هناك على الحمار المقصود في الرسالة، لكنه وللأسف لم
يكن في ذكاء أبي صابر صاحب الشيخ. عندها نهق أبو صابر وأبدى استعداده في
مرافقتي مبديًا للشيخ رغبته في زيارة الجليل، وفي الوقت ذاته يروح عن نفسه
قليلا بعد أن وصله انذار منذ مدة بهدم زريبته " بحجة أنها بنيت دون ترخيص"
وهي تعود لجد جده، و بُنيت منذ أكثر من ستين عاماً. طمأنت الشيخ انني سأعيد
الحمار بعد الانتهاء موسم القطاف، ولعله في هذه الاثناء يعثر لي على حمار
آخر. اتجه أبو صابر واستقل سيارتي وظهر الفرح على ملامحه، فقد أتيحت له
فرصة أخيرًا لزيارة الجليل الذي سمع الكثير عن خضرة أراضيه وعذوبة عيونه.
وفي الطريق وبعد أن
غادرنا حدود مدينة القدس، وتقدمت في شارع رقم 6 راح ينظر حوله مستغربًا
مستفسرًا متى أقيم هذا الشارع؟ والى أين يصل؟.. وعندما أبصر الجدار الفاصل
سألني أي مدينة تقع خلفه؟ فأخبرته "طولكرم" وبعد مدة سألني عن الطيبة،
وعندما علم انها هي راح يرجوني كي نمرّ اليها فقد سمع عنها الكثير ولم
يزرها، ولم أستجب لطلبه واستمريت في الطريق. بقي حزينًا هادئًا لمدة حتى
رآى يافطة تحمل اسم مدينة باقة الغربية، فراح يستحلفني أن نمرّ اليها فقد
زارها صديق حميم له من جماعة الحمير ولم يعد، ويود ان يدخل أراضيها ليستنشق
ذات الهواء الذي يعيش فيه صديقه، لعله يلقاه صدفة. أخبرته أنها مدينة
كبيرة جدًا ولن يعثر على صديقه ولن اقضي ايامًا فيها حتى يعثر عليه، راح
يكيل الوعود أنه لن يبحث عن صديقه، فقط يود أن يطأ المكان. أشفقت عليه
ونزلت عند طلبه، وكان صادقًا فبعد ان تمشى قليلا عند مدخلها ولم يرى ظلا
لصديقه عاد الى السيارة وطلب الاستمرار في الطريق. وقريبًا من مفرق وادي
عارة راح يحدق في اللافته ويسألني " أي هي عيرون هذه؟" قلت له " انها منطقة
وادي عارة وعرعرة" فعاد الى رجائه يطلب مني أن ننطلق في تلك الطريق نحو
الشمال لأنه يريد أن يتعرف على هذه المناطق كي يعود محملا بقصص جديدة الى
القدس، قلت " أمري الى الله" ودخلت ورحت أشرح له هنا كفر قرع ثم عرعرة ثم
عارة ، وبحكم ازدحام مروري طلب النزول من السيارة كي يتمشى على الارض
ويتحقق بأنه كان فيها حقًا وليرعى شيئًا من العشب القليل على الطريق، وهكذا
راح يتقدم قربي عند حاشية الطريق. فجأة قرع الباب وسألني عن لافته وضعت
فوق غرفة مهملة في أرض يكسوها الهشيم، ويسألني:" ماذا كُتب على هذه
اللافته؟" فهو لا يجيد قراءة العبرية، نظرت الى مقصده فرأيت عبارة "פיתה
דרוזית" فترجمت له " رغيف خبز درزي" حملق بي متعجبًا وتسائل :" وهل للطعام
في الشمال أديان؟"
ابتسمت وأجبت:"
أحيانًا يرون أن هناك بعض اصناف الطعام تميل الى دين أكثر من غيره فتسمى
على اسمه..!". سألني ان كان احد من الدروز يسكن في المنطقة فأجبت بالنفي،
وأخبرته أن أحد سكان المنطقة، لما وجد كل تلك الشعبية لهذه التسمية، فتح
هذا الكشك لمدة ومنح لخبزه وشطائره انتسابًا دينيًا كما يروق للبعض. استنكر
أبو صابر، لكن هذا لم يفسد استمتاعه بجولته رافضًا ان يرتقي مركبتي حتى
صرنا على بعد نحو كيلومترين عن مدينة ام الفحم، فأنهكه التعب. وانا راح
يستبد بي الغضب والندم على احضاري اياه ويبدو أن الطريق لن تنتهي ان بقيت
وتيرة سيرنا على هذا الحال.
انعطفنا يسارًا عند
مفترق مجيدو راح يتأمل السهول الممتدة على يميننا ويتمنى لو أتركه ينزل
ليمكث بضعة ايام هنا.. يرعى في الحقول. ولم أعقب، بقي صامتًا حتى اقتربنا
من قرية كفرمندا، فأصر على النزول من السيارة ليقضي حاجة وليرعى قليلا، ولم
يكن أمامي من خيار.
مع اقترابنا في
الخامسة من قريتي الرامة وانا انظر الى ساعتي وأشعر بالاسف على هذه الخطوة
التي أقدمت عليها في احضار ابي صابر عندي، فقد كلفني هذا مدة سفر ست ساعات
بدلا من ساعتين ونصف، وعند مشارف القرية تهلل وجهي ولم تخفى فرحتي برؤية
الاشارة الضوئية عند مدخل قريتي تعمل. لاحظ أبو صابر فرحتي وراح يحدق في
الشارع ويقول:" يا نيالكم شو هالشوارع واشارة ضوئية عند مدخل البلد..!"
شعرت بغضب لأن ابا صابر لم يعلق عندما مررنا بقرى عربية أخرى عند مداخلها
اشارات، الا امام قريتي فخفت على الاشارة الضوئية التي كانت بمثابة حلم
بالنسبة لسكان القرية منذ عقود من عين أبي صابر، فطلبت منه أن يكف عن الحسد
وقلت:
ـ" انت لا تعلم كم من الاشخاص لاقوا حتفهم عند هذا المفترق وكم من السنوات طالبنا بالاشارة حتى تحقق الحلم وتحسدنا عليها الان؟!"
ـ" ان شوارعكم رائعة فعندنا في جبل المكبر كانت اخر اصلاحات للشوارع منذ عهد الاردن أي قبل حرب حزيران 1967 ووقوع البلدة تحت الاحتلال."
أبدى أبو صابر اعجابه بقريتي وتوجه حال وصولنا الى ركن في الساحة ورقد فيه.
في اليوم التالي وجدته
منزويًا منكفئًا على نفسه، سألته ماذا دهاه؟ فأخبرني انه سمع صوت انفجار
قريب، وتيقظ طيلة الليل خائفا من غارة مفاجئة لقوات الاحتلال، فانفجرت
ضاحكة وقلت له أن يهدأ من روعه، فإن هذه الانفجارات وللأسف صارت عادية في
القرية وتكون بعد خلافات بين بعض الجماعات. وكي أعوضه عن ليلته تلك دعوته
للتوجه معي الى كرم زيتوننا في خلة القصب ليرعى هناك ويستمتع بالهواء
النقي. في طريقنا راح يتابع المنطقة باعجاب، مبديًا فرحته في أنه قد صار
لديه الكثير ليطلع اصدقاءه عما راى في الجليل، سألني عن معنى اسم الرامة
فقلت :" مكان تجمع المياه فيوجد في قريتنا الكثير من عيون المياه، عين
الصرار، عين حوضين، عين الصغيرة.." فقاطعني وهو يقول :" كم تمنيت أشرب من
ماء عينٍ في الجليل" وهنا صمتُّ وانا أفكر كيف سأخبر أبا صابر أن امنيته لن
تتحقق فمعظم العيون جفت بعدما أهملت، او تدخل أحد السكان في حفر منبعها
بشكل خاطئ، وأكبر عيون البلد (عين الصرار) قد تلوثت، والعيون القليلة التي
لا تزال مياهها صالحة لا تنبعث الا بعد هطول المطر.
عدنا منهكين في ذاك اليوم، وتوجه أبو صابر من فوره الى زاويته المخصصة.
مررت عليه في صباح
اليوم التالي فوجدته واجمًا مرّة أخرى، سألته:" ما بالك ألم تعتد بعد؟ هل
جفلت من انفجار قنبلة؟" نظر الي والهم بادي عليه:" في الواقع أحاول أن
اعتاد رغم أنني والله في كل مرة أجفل وأخشى وبصراحة أن يقطع نسلي هنا..
لكن ما رأيته أمرُُّ وأدهى.." استغربت تساءلت : " وماذا رأيت؟" التفت الى
جريدة ملقاة بقربه وقال:" لقد قرأت أن واحدًا من هنا في الشمال ينسب قسمًا
من ابناء فلسطين العرب الى أصل يهودي ويدعي أنهم أساس الصهيونية" أخفضت
بصري وحرقة ومرارة تجتاحني، وحاولت مرة أخرى أن أهدأ من روعه وأشرح له ان
هذا الرجل لا يمثل الا نفسه وقلة حوله، عين نفسه شيخًا ليفتي بالدين
والتاريخ، ويغير وجه الحقيقة، الا أن التاريخ معروف ومسجل ولن يغيره هذا
الكلام، الا أن أبو صابر نهض وقال :" والله أخشى ان أبقى هنا واسمع بعد
أيام ان أحد ابناء سلالتنا في الشمال ينسبنا الى جماعة الحمير التي قدمت مع
الاسباط من سيناء، واننا من ساعدنا في انتشار الصهيونية، أرجوك اعيديني
الى زريبتي في قريتي.. أخشى أن ينفذوا أمر هدمها في غيبتي فقبل ايام قليلة
تم هدم مزرعة خيول في العيسوية، وأخشى أن يصبني مصابهم فأقضي الشتاء في
الشتات.." لم يكن أمامي سوى ان أنفذ مطلبه.
طيلة مدة سفرنا الى القدس لم ينبس ببنت شفة، حتى اذا ما اقتربنا من مشارف جبل المكبر قال لي:
ـ" كنت أخال الجليل
والمنطقة الشمالية هي الجزء المزهر من الارض الوطن، لكن صار يصعب أن أنظر
اليه وأتجاهل أن به من الشوك الكثير" ونزل..
بعد أيام اتصلت الى
الشيخ جميل لأسأل عن أبي صابر، فأخبرني أن ابا صابر منذ أن عاد من رحلته
القصيرة، وهو منكب يطالع كتب التاريخ، فقلت له أن يخبر حماره، أنني أدعوه
لزيارتي مرة أخرى ليقيم محاضرة للبعض.. بالتاريخ..[/center]
بصراحة
وبعد ان انقضت مدة في مطالعتي لاحاديث الشيخ العم جميل السلحوت مع حماره،
أعجبت بهذه العلاقة، وبحماره الذكي فتوجهت للشيخ وطلبتُ منه أن يعثر لي على
حمار مثل حماره لأصحبه معي الى قريتي الرامة في الجليل، فمن جهة سيساعدني
في جمع محصول الزيتون ومن جهة اود أن استمتع بأحاديثه الطريفة. وافق الشيخ
وانطلقنا في عملية بحث وتنقيب عن حمار وبمساعدة حماره أبو صابر الذي لم يأل
جهدًا في تشغيل اتصالاته في أوساط قطعان الحمير في المنطقة، وبعد بحث طويل
في جبل المكبر وسلوان وصلتنا رسالة من أحد حمير حيّ الشيخ سعد، والذي فُصل
عن امتداده وأصله جبل المكبر بشكل كامل بعد اقامة الجدار الفاصل، أنه
يتذكر حمارًا من أقاربه فيه المواصفات التي نطلب في منطقة غزيل جنوبي جبل
المكبر. بعد مدة عثرنا هناك على الحمار المقصود في الرسالة، لكنه وللأسف لم
يكن في ذكاء أبي صابر صاحب الشيخ. عندها نهق أبو صابر وأبدى استعداده في
مرافقتي مبديًا للشيخ رغبته في زيارة الجليل، وفي الوقت ذاته يروح عن نفسه
قليلا بعد أن وصله انذار منذ مدة بهدم زريبته " بحجة أنها بنيت دون ترخيص"
وهي تعود لجد جده، و بُنيت منذ أكثر من ستين عاماً. طمأنت الشيخ انني سأعيد
الحمار بعد الانتهاء موسم القطاف، ولعله في هذه الاثناء يعثر لي على حمار
آخر. اتجه أبو صابر واستقل سيارتي وظهر الفرح على ملامحه، فقد أتيحت له
فرصة أخيرًا لزيارة الجليل الذي سمع الكثير عن خضرة أراضيه وعذوبة عيونه.
وفي الطريق وبعد أن
غادرنا حدود مدينة القدس، وتقدمت في شارع رقم 6 راح ينظر حوله مستغربًا
مستفسرًا متى أقيم هذا الشارع؟ والى أين يصل؟.. وعندما أبصر الجدار الفاصل
سألني أي مدينة تقع خلفه؟ فأخبرته "طولكرم" وبعد مدة سألني عن الطيبة،
وعندما علم انها هي راح يرجوني كي نمرّ اليها فقد سمع عنها الكثير ولم
يزرها، ولم أستجب لطلبه واستمريت في الطريق. بقي حزينًا هادئًا لمدة حتى
رآى يافطة تحمل اسم مدينة باقة الغربية، فراح يستحلفني أن نمرّ اليها فقد
زارها صديق حميم له من جماعة الحمير ولم يعد، ويود ان يدخل أراضيها ليستنشق
ذات الهواء الذي يعيش فيه صديقه، لعله يلقاه صدفة. أخبرته أنها مدينة
كبيرة جدًا ولن يعثر على صديقه ولن اقضي ايامًا فيها حتى يعثر عليه، راح
يكيل الوعود أنه لن يبحث عن صديقه، فقط يود أن يطأ المكان. أشفقت عليه
ونزلت عند طلبه، وكان صادقًا فبعد ان تمشى قليلا عند مدخلها ولم يرى ظلا
لصديقه عاد الى السيارة وطلب الاستمرار في الطريق. وقريبًا من مفرق وادي
عارة راح يحدق في اللافته ويسألني " أي هي عيرون هذه؟" قلت له " انها منطقة
وادي عارة وعرعرة" فعاد الى رجائه يطلب مني أن ننطلق في تلك الطريق نحو
الشمال لأنه يريد أن يتعرف على هذه المناطق كي يعود محملا بقصص جديدة الى
القدس، قلت " أمري الى الله" ودخلت ورحت أشرح له هنا كفر قرع ثم عرعرة ثم
عارة ، وبحكم ازدحام مروري طلب النزول من السيارة كي يتمشى على الارض
ويتحقق بأنه كان فيها حقًا وليرعى شيئًا من العشب القليل على الطريق، وهكذا
راح يتقدم قربي عند حاشية الطريق. فجأة قرع الباب وسألني عن لافته وضعت
فوق غرفة مهملة في أرض يكسوها الهشيم، ويسألني:" ماذا كُتب على هذه
اللافته؟" فهو لا يجيد قراءة العبرية، نظرت الى مقصده فرأيت عبارة "פיתה
דרוזית" فترجمت له " رغيف خبز درزي" حملق بي متعجبًا وتسائل :" وهل للطعام
في الشمال أديان؟"
ابتسمت وأجبت:"
أحيانًا يرون أن هناك بعض اصناف الطعام تميل الى دين أكثر من غيره فتسمى
على اسمه..!". سألني ان كان احد من الدروز يسكن في المنطقة فأجبت بالنفي،
وأخبرته أن أحد سكان المنطقة، لما وجد كل تلك الشعبية لهذه التسمية، فتح
هذا الكشك لمدة ومنح لخبزه وشطائره انتسابًا دينيًا كما يروق للبعض. استنكر
أبو صابر، لكن هذا لم يفسد استمتاعه بجولته رافضًا ان يرتقي مركبتي حتى
صرنا على بعد نحو كيلومترين عن مدينة ام الفحم، فأنهكه التعب. وانا راح
يستبد بي الغضب والندم على احضاري اياه ويبدو أن الطريق لن تنتهي ان بقيت
وتيرة سيرنا على هذا الحال.
انعطفنا يسارًا عند
مفترق مجيدو راح يتأمل السهول الممتدة على يميننا ويتمنى لو أتركه ينزل
ليمكث بضعة ايام هنا.. يرعى في الحقول. ولم أعقب، بقي صامتًا حتى اقتربنا
من قرية كفرمندا، فأصر على النزول من السيارة ليقضي حاجة وليرعى قليلا، ولم
يكن أمامي من خيار.
مع اقترابنا في
الخامسة من قريتي الرامة وانا انظر الى ساعتي وأشعر بالاسف على هذه الخطوة
التي أقدمت عليها في احضار ابي صابر عندي، فقد كلفني هذا مدة سفر ست ساعات
بدلا من ساعتين ونصف، وعند مشارف القرية تهلل وجهي ولم تخفى فرحتي برؤية
الاشارة الضوئية عند مدخل قريتي تعمل. لاحظ أبو صابر فرحتي وراح يحدق في
الشارع ويقول:" يا نيالكم شو هالشوارع واشارة ضوئية عند مدخل البلد..!"
شعرت بغضب لأن ابا صابر لم يعلق عندما مررنا بقرى عربية أخرى عند مداخلها
اشارات، الا امام قريتي فخفت على الاشارة الضوئية التي كانت بمثابة حلم
بالنسبة لسكان القرية منذ عقود من عين أبي صابر، فطلبت منه أن يكف عن الحسد
وقلت:
ـ" انت لا تعلم كم من الاشخاص لاقوا حتفهم عند هذا المفترق وكم من السنوات طالبنا بالاشارة حتى تحقق الحلم وتحسدنا عليها الان؟!"
ـ" ان شوارعكم رائعة فعندنا في جبل المكبر كانت اخر اصلاحات للشوارع منذ عهد الاردن أي قبل حرب حزيران 1967 ووقوع البلدة تحت الاحتلال."
أبدى أبو صابر اعجابه بقريتي وتوجه حال وصولنا الى ركن في الساحة ورقد فيه.
في اليوم التالي وجدته
منزويًا منكفئًا على نفسه، سألته ماذا دهاه؟ فأخبرني انه سمع صوت انفجار
قريب، وتيقظ طيلة الليل خائفا من غارة مفاجئة لقوات الاحتلال، فانفجرت
ضاحكة وقلت له أن يهدأ من روعه، فإن هذه الانفجارات وللأسف صارت عادية في
القرية وتكون بعد خلافات بين بعض الجماعات. وكي أعوضه عن ليلته تلك دعوته
للتوجه معي الى كرم زيتوننا في خلة القصب ليرعى هناك ويستمتع بالهواء
النقي. في طريقنا راح يتابع المنطقة باعجاب، مبديًا فرحته في أنه قد صار
لديه الكثير ليطلع اصدقاءه عما راى في الجليل، سألني عن معنى اسم الرامة
فقلت :" مكان تجمع المياه فيوجد في قريتنا الكثير من عيون المياه، عين
الصرار، عين حوضين، عين الصغيرة.." فقاطعني وهو يقول :" كم تمنيت أشرب من
ماء عينٍ في الجليل" وهنا صمتُّ وانا أفكر كيف سأخبر أبا صابر أن امنيته لن
تتحقق فمعظم العيون جفت بعدما أهملت، او تدخل أحد السكان في حفر منبعها
بشكل خاطئ، وأكبر عيون البلد (عين الصرار) قد تلوثت، والعيون القليلة التي
لا تزال مياهها صالحة لا تنبعث الا بعد هطول المطر.
عدنا منهكين في ذاك اليوم، وتوجه أبو صابر من فوره الى زاويته المخصصة.
مررت عليه في صباح
اليوم التالي فوجدته واجمًا مرّة أخرى، سألته:" ما بالك ألم تعتد بعد؟ هل
جفلت من انفجار قنبلة؟" نظر الي والهم بادي عليه:" في الواقع أحاول أن
اعتاد رغم أنني والله في كل مرة أجفل وأخشى وبصراحة أن يقطع نسلي هنا..
لكن ما رأيته أمرُُّ وأدهى.." استغربت تساءلت : " وماذا رأيت؟" التفت الى
جريدة ملقاة بقربه وقال:" لقد قرأت أن واحدًا من هنا في الشمال ينسب قسمًا
من ابناء فلسطين العرب الى أصل يهودي ويدعي أنهم أساس الصهيونية" أخفضت
بصري وحرقة ومرارة تجتاحني، وحاولت مرة أخرى أن أهدأ من روعه وأشرح له ان
هذا الرجل لا يمثل الا نفسه وقلة حوله، عين نفسه شيخًا ليفتي بالدين
والتاريخ، ويغير وجه الحقيقة، الا أن التاريخ معروف ومسجل ولن يغيره هذا
الكلام، الا أن أبو صابر نهض وقال :" والله أخشى ان أبقى هنا واسمع بعد
أيام ان أحد ابناء سلالتنا في الشمال ينسبنا الى جماعة الحمير التي قدمت مع
الاسباط من سيناء، واننا من ساعدنا في انتشار الصهيونية، أرجوك اعيديني
الى زريبتي في قريتي.. أخشى أن ينفذوا أمر هدمها في غيبتي فقبل ايام قليلة
تم هدم مزرعة خيول في العيسوية، وأخشى أن يصبني مصابهم فأقضي الشتاء في
الشتات.." لم يكن أمامي سوى ان أنفذ مطلبه.
طيلة مدة سفرنا الى القدس لم ينبس ببنت شفة، حتى اذا ما اقتربنا من مشارف جبل المكبر قال لي:
ـ" كنت أخال الجليل
والمنطقة الشمالية هي الجزء المزهر من الارض الوطن، لكن صار يصعب أن أنظر
اليه وأتجاهل أن به من الشوك الكثير" ونزل..
بعد أيام اتصلت الى
الشيخ جميل لأسأل عن أبي صابر، فأخبرني أن ابا صابر منذ أن عاد من رحلته
القصيرة، وهو منكب يطالع كتب التاريخ، فقلت له أن يخبر حماره، أنني أدعوه
لزيارتي مرة أخرى ليقيم محاضرة للبعض.. بالتاريخ..[/center]